معرفة

احتفالية موكب الموتى ويوم الظلال

قصصٌ أسطورية تحكي عن رؤية المرء لنفسه، وقد غدا ضعيفا أمام مآل مصائره الجبرية، مثل ظلِِ لم يكن حقيقيا أبدًا.

future غلاف رواية «موكب الظلال»

في الأول والثاني من نوفمبر من كل عام، يحتفل المكسيكيون بموتاهم؛ يرتادون المقابر مُبهرجن، مُتخّمين بالأطعمة والأزهار، حلويات على هيئة جماجم، وأكاليل على خلقة آلهة الموت الآزاتكية، في يوم الموتى السنوى «إل دِيا دى لوس مويرتوس» ليستحضروا أرواح الأجداد، ويتذكروا قصصًا أسطورية، عن الحب والحرب وتواريخ عائلية حميمية في أزمنة غابرة وسحرية.

أما في قرية تاموغا، المسرح المتخيل لأحداث المجموعة القصصية «موكب الظلال» للإسباني خوليان ريوس، الواقعة في إقليم غاليثيا، شمالي إسبانيا، فعيد الموت يستحضر كل يوم، ومع كل صفحة، جنبًا إلى جنب مع الاحتفاء بتفاصيل الحياة، مثل موكبٍ احتفالي يدوم طوال السنة؛ إل كورتخو دي لوس مويرتوس.

ينسج ريوس قصصه التسعة على خلفية جغرافية واحدة تمنحها القدرة على التحليق، عبر واقعٍ يستحيل سحريًّا بالملكة المجردة لحكي القصص، فيصير پالونثو حيوانًا، ويحلم خوسيه-آوغوستو إغليسياس بالمستقبل، ويشطر أوراثيو آرياس وأخته ديليا منزلهما المشترك نصفين حين يفرّقهما حبه للخادمة ورفضها لهذه العلاقة المشينة.

والكاتب انطلاقًا من هذه السماحية، يحكي لنا حكايات تسعة ظلال تشكل موكبًا ممثلًا للبشر أجمعهم، بخاتمات اقتربت من الموت إلى حد تحقيقه بذاتها، أو الرقص بخفة حوله، فيما تندفع شخصيات ثانوية نحو الموت؛ ماديًّا أو معنويًّا.

حكاية الظلال التسعة

فيكتب ريوس عن مورتيس، المسافر الخمسيني الغريب، الذي يحط في تاموغا بالصدفة، مقررًا النزول في محطة البلدة المهملة في اللحظة الأخيرة قبل تحرك القطار مغادرًا؛ لتلبية هاجس تملّكه حين رأى نفسه وقد صار ظل الرجل الذي كانه، والزوج والأب الذي لم يعده.

وكما لو كان يبتغي الخلاص بتآزر أهل القرية، يتجوّل متعمدًا أن يراه السكان، يسأل عن موارد التجارة في البلدة، كالعازم على إقامة عمله الخاص، مستمدًّا من الآخرين أملًا ضئيلًا في الحياة. يذهب للمقهى، وللمرقص، وللصيدلية، وللسنترال؛ لإجراء مكالمة مع امرأة، تلحقه بعد يومين، في ذات القطار الذي جاء فيه، بعد فوات الأوان بكثير.

يكتب ريوس عن رؤية المرء لنفسه، وقد استحال ضعيفا أمام مآل مصائره الجبرية، مثل ظلِِ لم يكن حقيقيا أبدًا.

أما في قصة الظلال، فيصف الكاتب خِبال الحب، حين تعيش دونيا ساكرامنتو أندريني مثقلة بذنب لا يد لها فيه، واشتياقٍ بررته الوِحدة، تجاه زوجها الذي بدد ثروتها بمقامراته، ثم قلب الطاولة تجاهها، وتركها تواجه العالم وحيدةً، بشعور طاغٍ بأنها السبب فيما فعله بها، وبنفسه. فتتوهم المرأة ظل زوجها، متزينًا وبهيًّا، فيما تقلب ألبوم صورهما، وتتألم من وجع المفاصل، والنار التي أشعلتها هي، تلتهم بيتها وهي داخله، بعدما رفضت بيع أرضها الخلاء للحكومة، ربما رثاءً لذكرى زوجها المقامر، أو مجرد رغبة حثيثة في الاحتفاظ بظل وجوده لأطول فترة ممكنة.

استجواب المجتمع

يستجوب المؤلف في قصته الثالثة المجتمع بأكمله، بخصوص پالونثو؛ النغل في الشوارع، المنبوذ والمحتقر، الذي نشأ كالحيوان الضال الذي لا صاحب له، مرتابًا، منعزلًا، قذرًا، مغطى بالبثور، ينازع الكلاب على العظام وبقايا حاويات النفايات، ويعيش حياة مهرج متشرِد.

ففي سردية لماحة وذكية، يتناول ريوس الحكاية عبر أسئلة استنكارية تخاطب القاريء، والفرد من المجتمع. مع المضي قدمًا، تتبناه أخيرًا عجوزٌ تأكلها الوِحدة؛ لوثديبينا، التي تناديه دومًا بلقب بُنيّ؛ استرجاعًا لأمومة مكبوتة، أو تكفيرًا عن ذنبٍ قديم، ربّما، ارتكبته حين كانت شابة طائشة وفاتنة، فصارت معه حاملًا من رجلٍ عابر، بمصيرٍ غير معروف، لدى أهل تاموغا، لجنينها الوليد.

تأويه في ثلاثينياته العجوز ويتخلص المجتمع من وطأة الإحساس بالذنب تجاه ثمرة إهمالهم المجتمعية، حتى تأتي طامة پالونثو الكبرى بشيطانٍ يغويه للذهاب إلى مستودع كوريسكو الماخوري، حيث تثيره مراهنات الرجال وصيحاتهم على استكشاف قدراته الفحوليّة مع ثلاث عاهرات.

إلى أن تخبو الإثارة، ويعتادها المجتمع مالًّا، فينبذون پالونثو بعدما شجعوه على إدمان النساء، فيغدو حيوان شوارع يثير الهلع في نفوس نسوة المُجتمع ذاته. إلى أن تنتهي حكايته بفاجعة يفجّرها الكاتب في وجه مُجتمع پالونثو كلّه.

قبل موسم الصيد بثلاثة أشهر، يجد ثيلسو كاستيّو نفسه الفريسة المطاردة في حملة صيد مفاجِئة، إذ عزمت عِصبة تتسلّى، في ظلّ اضطراباتٍ سياسيّة أفشت العنف غير المُبرَّر والخوف في شوارع تاموغا البريئة، على العبث معه. في هذه القصّة، يهجو ريوس الميل للعنف والتنكيل بالأطياف المُختلِفة عن المُمسكين بالسُلطة، أو بالسلاح

فهم ببلطجة مَحضة، يختطفونه من بيته بعد جَلبة توقظه ليلًا، ريثما يحاولون سرقة خزانة ورشته، على مرأى ابنه الصغير المُنتحِب، ويقيّدونه في سيارتهم مُتّجهين نحو الغابة. هناك، في ظلال الأدغال والجروف، يأمرونه بالجري قائلين: «أركض يا كاستيّو. إنّها فرصة لا يستحقّها أحمر واحد»؛ مُستخدمين لفظة ذاعت وقتها إبان الحرب الأهليّة الإسبانيّة لتصف اليساريّين والشيوعيّين والجمهوريّين.

ثم يهمّون باصطياده. يجري ثيلسو ويجري، آملًا، ببراءة، في النجاة. يجري حتى ينجح في الهرب ويعتريه سلامٌ كامِن وراحة عميقة، فيسقط على تراب الغابة، الآخذ في الاكتساء بحُمرة قانية، ومن بعيد يلحقه المُسلَّحون إلى موضع راحته.

التسلط المنزلي

في حكاية البيت المُقسّم، يُلمّح الكاتِب للتسلّط المنزليّ الذي لم يؤدِّ فقط لشطر المنزل المُشترك الذي أوى الشقيقين أوراثيو آرياس وديليا، بل تفاقم نحو انقلابٍ عنيفٍ على سُلطة الأخت التي تُطالِب أخيها بوجوب رحيل ماريا ريتا؛ الخادمة التي لم تصُدّ النظرات الشبِقة لأوراثيو أو زياراته الفجريّة لغرفتها، حتى حبلت منه ابنًا أشعرَ ديليا بعارٍ مقيت.

وحين يعترض أوراثيو، ربّما لأوّل مرّة في حياتهما، تصرُّ على رفض الزيجة المُرتقبة من مُحظية وضيعة، فيما يعكف على التحرّر من ظلّ أخته. أو ربّما كان في الواقع، بمناداته على ظِلِّها، وهو على قمّة السُلّم، وذراعاه لازالتا ممدودتين أمامه، وجسدها لازال ساكنًا عند نهاية الدرج، يفتقده بعدما خبا.

يسطر المؤلّف قصته السادسة التي فازت بجائزة غابرييل ميرو لعام 69 بضمير المُخاطَب، منصبًا قارئه بطلًا في القصة؛ عجوزًا يسترجع ذكريات حياته وماضيه، ويتمثّل ظلال الناس والأشياء في غياهب غيبوبته، خالقًا قصصًا جديدة غير التي حدثتْ، على مدار وقتٍ مديد لم يشعر معه بحقيقة وقته، وحياته.

ثم يصدمنا ريوس بقصة ثأر، حين يطرق غريبٌ بابَ الدكتور لاغو، مطالبًا إياه أن بفحص صديقٍ أُصيب بالخطأ في كوخه صوب الغابة. يتردّد الطبيب بغير سبب، بيد أنّه يوافق تحت إلحاح الغريب الذي يُشعِرُه بالأُلفة.

يركبان السيارة ويصلان للكوخ المهجور، فيُشهر الغريب بندقيّته في وجه الطبيب العجوز، ويذكّره بماضيه الصفيق، وبرحلة صيد صيفيّة منذ ثلاثين عامًا، كان فيها الظلُّ الفَتيّ للدكتور صيّادًا فاعلًا ضمن عصبة، اصطادت والد الغريب؛ ثيلسو كاستيو. لكنّ ريوس، في الوقت نفسه، يُضفي طابعًا رماديًّا إنسانيًّا على أبطاله، إذ يتردّد الابن المُنتقِم طويلًا، ناظرًا للقاتل القديم على حقيقته «أنه مجرد عجوز» قال في نفسه.

يفتتح الكاتِب قصته الثامنة بسقوط إلياس روتشا مُتأثّرًا بالسكتة، بعد زيارته السنوية إلى المقابر. فتشكل لجنة حكومية محلية للوقف على أملاك الصيدلانيّ العجوز المُتوفّى كمدًا بعدما هربت زوجته الصبيّة مع ابن شقيقته الذي ربّاه في منزله مثل ابنه، بعدما نمت الأقاويل وذاعت الإشاعات حول التقارب المُربِك بين الشابين. وفيما تفتش اللجنة في داره الموصود، يجدون في خزانة مُحكمة الغلق داخل غرفته الخاصة صندوفًا جنائزيًّا مُزيّنًا، به من أسرار إلياس روتشا الكثير. 

يصف المُؤلّف في الحكاية الأخيرة كيف يرتبط الإنسان بموطنه مثل ظلّه، أو مثل ندّاهة لا سبيل للفرار منها، فيستيقظ خوسيه-آوغوستو إغليساس على كابوسٍ مريع، مُناديًا ظلَّ زوجته التي ماتت منذ أربعة أشهر. يسترجع ذكرى حياتهما معًا بينما تُطبِق على روحه الوحدةُ والشيخوخة. فيقرّر أن يدواي ذلك بالعودة لموطنه؛ تاموغا.

وأثناء عبوره قاصدًا المقابر ليزور قبر أمّه، يبصر صليبًا جنائزيًّا في الأفق، وعجوزًا يتنبأ بموته. يرى شاهدي مدفنِ أمه وأبيه، وثالثًا باسمه! فيغادر مُتعجّلًا بسيارته ظانًا أنّه لازال في كابوسه. وعند الناصية، لا يجد للصليب الجنائزيّ أثرًا، ولا للعجوز المُتنبّيء، لكنّه يعثر على نبوءته، أو هي التي تعثر عليه.

ورغم تفاوت جودة القصص التسعة، والرسائل الكامنة وراء كلماتها، إلا أنّ جودة أسلوب الكاتب؛ في التلاعب الزمنيّ داخل متن السرد، أو في زرع التفاصيل والدلائل وسط إفشاءه التدريجي للحقائق والحبكات، من خلال حكايات تلد حكايات أخرى وشخصيات ثانويّة عابرة لحدود القصّة الواحدة نحو العالم التاموغاوي المصمَّم ببراعة، بجوار الترجمة البديعة لمارك جمال، رفعت من قيمة المجموعة القصصيّة القصيرة، وجعلتها عامرة بالتمثيلات والتأويلات، وصالحة للقراءة الفردية والتأمل، أو للقراءة الجماعيّة والمُناقشة.

# أدب # منحة تنمية للكتاب 2025

خاتم سليمي: ذاكرة الأماكن وعبء الانتماء
«كالماء للشيكولاتة»: الحب في مواجهة التقاليد
وهل الموت أمر سيئ؟

معرفة